بعض الكائنات اللزجة التي أعرفها مرتبة إلى درجة المرض، هوس وضع كل شيء في محلّه. لا أخفيكم بأن الترتيب أسهل، يوفر الوقت والجهد ويجعل كل ما حولك "حولك" فعلا، ولكن تبعا لتصنيفاتي الخاصة، فإن هذا بحد ذاته مثير للملل. أن تكون شخصا متوقّعا، يمكن التنبؤ بتصرفاته وأحواله، ألا يلبسكم ذلك ثوب الرتابة؟ يمكن لبعض صفاتنا أن تكون معروفة تبعا لتفضيلاتنا الشخصية، ألواننا التي نحب، شكل الملابس التي نرتدي، الأماكن التي نزور، السيارات التي نقود، وهكذا.. لكن ستظل مساحة الفوضى في حياتنا متاحة إن أردنا لها ذلك. سأضرب مثالا بسيطا على ذلك - وسيختلف معي كثر ولا مشكلة في ذلك: من السُّنة مثلا أن نأخذ طريقا مختلفا في ذهابنا إلى مصلى العيد عن طريق عودتنا، السُّنة تعطينا هذه المساحة لكي تسلم علينا الملائكة في غدونا ورواحنا ونحصل على أجرنا مضاعفا. من وجهة نظري البسيطة: هي مساحة حرة لنا لنتحرك في حيز أوسع من ذلك الذي نفضله ونستسلم له بحكم العادة. فلنطبق ذلك على حياتنا اليومية، ما هي الأمور التي تفعلها يوميا وبنفس الطريقة المملة؟ هل جربت أن تضفي عليها لمسة فوضى؟ لمسة تغيير؟ ما الذي سيحصل لك في أسوأ الأحوال؟ ها!
معايير ومؤشرات/ أنظمة وقوانين أنا لست كائنا مرتبا أبدا، فوضوية في كل شيء تقريبا، لكنني تأدبت بعد زواجي، باختصار أنا المسؤولة عن بيتي الآن، وعليّ أن أكون مثالا للترتيب، ترنّ في أذني كلمات أمي التي كانت دستورا منزليا – لا ينطبق عليّ طبعا: "ضع كل شيءٍ في محلّه"، الجملة التي كانت عنوان قصة للأطفال درسوها لأمي في مدراس وكالة الغوث للاجئين، ورغم المخيمات التي كانوا فيها إلا أن غرفهم كانت مرتبة وكل شيء – الأشياء التي توفرت لديهم حينها على الأقل – في محلها. في سخرية مريرة لما يمكن أن تفعله بشعبٍ كامل أدخلته في حالة من فوضى الحق والأرض والحرية والمسافة، ثم أخذت تعيد تدجينه ليصبح مرتبا جدا: يحافظ على مسافة آمنة بينه وبين حدود المحتل، لا يتدخل في صراعات جانبية، يقف في الطابور بانتظام ليحصل على غذائه ودوائه وكسائه، يختم وثائقه على المعابر أو يعود أدراجه بأدب وكياسة إن لم يوافق عليه أمنيا، ويساق إلى ساحات التعذيب والإعدام لا لسبب معين إلا لأنه اخترق قانون الترتيب الجاري. آخ! بئس ترتيب كهذا! بالنسبة لطفلة ثم مراهقة عاشت حياة مستقرة - في حيزها على الأقل بعيدا عن المعابر والحدود - كانت الكارثة الإنسانية التي يمكن أن تحلّ بي حينها هي أن تتطوع أمي وترتب غرفتي أثناء وجودي في المدرسة أو الجامعة، بل وأثناء سنوات زواجي الأولى حين كانت لديّ دفاتر وقصاصات ومذكرات وأغراض لم أحملها معي بعد لبيتي الجديد – وتستمع أمي وربما تعيد التعرف عليّ عندما تكتشفها وتقضي وقتا طويلا في تناولها على مهل - ولكن إلى أي حد يمكنك أن تتحول من كائن فوضوي إلى مرتب؟ إلى أي حد يمكن للحياة أن تؤدبك وتعيد تدجينك بما يناسب المقاييس المتوقعة منك – لن أتحدث عن المؤشرات والمعايير العالمية، فتلك قصة أخرى في منظمة الجودة الأوروبية ومنظومة الجيل الرابع وهي أمور تنتهي بالصداع والعديد من كبسولات المسكنات. بالنسبة لأم مثالية – أو يعتقد الآخرون بأنها كذلك أو يجب أن تلبي الحد الأدنى من ذلك على الأقل – فإن مكان الفوضى لن يتوفر إلا في مساحات محددة، على كل المساحات الأخرى أن تلمع وتبرق وتكون مثالا يحتذى إذا ما فاجأك زائر في غفلة من الزمن. احتجت وقتا طويلا لأفهم مسألة الغفلة من الزمن.. تلك التي يأتي فيها زائر يبعكش بعينيه في زوايا بيتك ومطبخك وحمامك ليكتشف ثغرة فوضى يبتسم لها وتبتسم له. اكتشفت هذا التصنيف المجحف للفوضى في زيارة جارتي التي فاجأتني ودخلت بدعوة من حماتي التي تعتبر كائنا اجتماعيا بامتياز، لا يمكنها أن تقضي أكثر من أسبوع دون أن تتعرف على كل الجارات، بينما قضيت أنا أربع سنوات زواجي الأولى دون أتعرف على جارة واحدة! هكذا، وجدتني بثياب البيت أستقبل جارة تدخل مستكشفة بيتي على استحياء، وحماتي تدعوها بترحاب، لملمت بعض الأشياء عن الطاولة وألعاب البنات من الصالة الداخلية، وأنا أقول لها: لم تخبريني بأنك ستضيفينها في البيت! ابتسمَت مجيبة: وماله؟ الواحد لازم يكون دائما مستعد في بيته. مستعد، مستعد مرادف للمرتّب، بعد إعادة ترتيب الجملة يمكن أن تترجم كالتالي: لازم بيتك يكون مرتب على مدار الساعة، لا حجج، لا ظروف، لا مبررات. ابنة الوزة.... يعيدني ذلك إلى سؤال لين الوجودي جدا عندما طلبت منها تسريح شعرها: ماما، ليش لازم الواحد يمشط شعره؟ أجيب: النظافة والترتيب حلوة. تصر: ولكن الشعر المنكوش حلو. أكرر: صح حلو، ولكن الناس ستقول عنك... ألجم لساني، أعيد صياغة الجملة: لا تمشطي شعرك يا ماما إذا كان يعجبك.. سرحيه قليلا ليكون أفضل، واتركيه كما تشائين، ولا تهتمي لما يقوله الآخرون، هذا شعركِ أنت.. لا شعرهم! ما رأيك الآن؟ تجيب مبتسمة: طيب! سأسرح شعري لأني أحب شعري طويلا، وكلما سرحته بان طوله أكثر. نصل لاتفاق معلن، بالتراضي، ولين بشعرها المنكوش.. تبدو جميلة في كل حالاتها. هل قلت شعر منكوش؟ من هبات الله على المرء أن يكون شعره ناعما لا يحتاج إلى تصفيف، وقد رزقني الله هذه الهبة التي لو صليت لها ليل مساء لما وفيتها حقها. أنا الكائن الذي يكره المرايا وتسريح الشعر – هل قلت تسريح شعر! – أجل، كانت هدى أختي الكبرى تشتري دقائق لتصفيف شعري مقابل مبلغ تنقدني إياه، تركض خلفي في البيت وتقول: تعالي، أمشط شعرك.. شعرك جميل، سأعمل لك تسريحة خرافية.. سأعطيك عشر دراهم – في ذلك الوقت عشر دراهم هي كنز حقيقي – تعالي بس.. أبوس إيدك وافقي. أوافق أحيانا، وأتمنع أحيانا أخرى. كانت تصفف شعري بطرق عجيبة جميلة مذهلة. لكنني كنت أفضل أن أتركه هكذا يسرح، أو أربطه ربطة عشوائية تعلّ القلب! ماذا عن فوضى المشاعر؟ هل يملك أحدنا مسطرة وقلما يسطر بها مشاعره؟ يقيسها، يزنها، يحدد ما يريد وما لا يريد؟ ما يكفيه وما يفيض؟ أمي كانت تحدد لنا المقدار الذي يجب علينا أن نبتسم به لنكون محترمات لائقات.. ابتسامة لا تبدو فيها الأسنان.. ابتسامة بنات مؤدبات. أبي كان يكره أن يراني أمضغ العلكة بفم نصف مفتوح مصدرة صوتا، كان يقول: البنات المؤدبات لا يصدرن صوتا أثناء مضغ العلكة، يجب مضغها دون فتح الفم، وبطريقة خفيّة. ماذا عن فوضى المشي؟ الخطوة الواسعة كأنك تسابق الريح؟ هذه فوضى أرجل وأقدام يجب التخلص منها أيضا.. المشي بتؤده وهدوء.. المشي كالنسمة. من يريد أن يمشي كنسمة؟ هل جربتم المشي كعاصفة؟ كإعصار؟ هل تعتقدون أن موجة البحر لم تجرب ذلك؟ من منا يكره أن يقف أمام موجة مجنونة محملة برذاذ الزبد تقبّل به جباهكم وخدودكم! لن أبالغ وأطالب بتسونامي مشاعر وموج وجسد.. سنتحدث عن فوضى مقدور عليها – لأولئك الذين لم يجربوا الفوضى العظيمة بعد. الفوضى التي تحرسكم خذوا نفسا عميقا.. تفكّروا فيما حولكم من فوضى. في كل شيء يثرثر.. في كل شيء يتنفس.. في كل شيء يراقبكم وتراقبونه.. في الدم الذي يجري في عروقكم.. في قلوبكم النابضة التي لا تهدأ أبدا.. في دماغكم وخلاياه التي تجري بليارات التفاعلات في الثانية الواحدة.. في عيونكم التي ترى آلاف الصور وتغربلها لكم لتخرج بصورة مثالية – لما ترغبون في رؤيته فقط – في الأصوات التي تسمعونها وتمر على غربال الأذن ليخرج لكم منها ما اعتدتم سماعه. هل تظنون أن هذه الفوضى هي مرتبة حقا؟ أم أنكم تتغافلون عنها لتصلوا إلى تلك الصورة المثالية من الترتيب والنظام؟ لنصبح مجموعة خراف تقاد إلى المرعى.. ترعى.. ثم تعود هادئة وادعة مسالمة مسلّمة بحصتها اليومية المعيارية من تجربة الحياة. ما هي معاييركم؟ ما هي تجاربكم؟ أين أنتم من هذه الفوضى؟ في عالم كهذا.. هناك مساحات شاسعة شاغرة.. ولا من يتقدم ليملأ الفراغ.. ليعيد للفوضى روعتها وبهجتها ودهشتها. دعوا الفوضى ترتبكم من الداخل، وستذهلكم النتيجة!
0 Comments
Leave a Reply. |
أمل إسمـاعيلArchives
May 2020
Categories
All
زنبقة بيضاء تكفي..
زنبقة بيضاء تحترق |